كما قلت من قبل، أنا رجُلٌ يفضِّل أن يُترك وشأنه.. أقف على الشط أرقب السابحين، وأمقت أي محاولة لجرّي جرًّا لأسقط في الماء، لكن هناك تلك المواقف التي أُرغم فيها إرغامًا على أن أثب في الماء.
المفترض أنني كاتب معروف وبالتأكيد لدي ما يُقال في أي مكان في أي لحظة. مثلًا تجلس في ذلك الحفل تلتهم الطعام في نهم وتمسك بفخذ دجاجة تنزع عنه اللحم، عندما يقول أحدهم:
"طبعًا لا يمكن أن يكون معنا د. (أحمد) ولا نسمع رأيه"
هنا أفطن إلى أن الكلام موجّه لي؛ فأرفع فمًا غارقًا بالصلصة وأتساءل عما يدور. يسألونني عن رأيي في تطبيق الحَوكَمة على مؤسسات القطاع الخاص.. يجب أن يكون لديّ رد جاهز وبليغ جدًا، كأنني قضيت حياتي أفكّر في الحَوكَمة ولا أنام بسببها. ويجب أن أدلي بهذا الرأي وأنا أحمل في يدي (فخذ) دجاجة.
مثلًا أمرُّ جوار زميل عمل يدلي بحوار للتلفزيون. الميكروفون والعدسة مصوّبان لوجهه. أمرُّ على أطراف أصابعي حتى لا أظهر في الكادر، لكنه يشعر بي فيصيح في مرح:
"لا يُفتى ومالك في المدينة.. هذا هو زميلي د. (أحمد) ولسوف يخبرنا برأيه في مبدأ مونرو وعلاقته بنظرية آدم سميث"
هكذا أجد نفسي خلال ثانية قد صرت أمام العدسة، وعلي أن أقول كلامًا ذكيًا جدًا يلخّص رأيي الذي تعبت في استخلاصه بصدد هذه النقطة.. باختصار يجب أن يكون لدي رأي متكامل عن كل شيء في أية لحظة من حياتي.. لا يتركون لك فرصة للتفكير.
الموقف السخيف الآخر هو عندما أكون مع صديق قديم في مكتبه نتكلم. هنا تدخل الغرفة سكرتيرة متعجّلة على درجة من الملل.. تأخذ بعض الأوراق وتوشك على الخروج، لكن زميلي يستوقفها:
"خمّني.. هل تعرفين هذا الوجه المميّز؟"
تنظر لي في كراهية ثم تقول: "لا"، كأنها تبصق
يقول في حماسة:
"هذا هو د. أحمد.. ألم تقرأي له من قبل؟"
تنظر لي في مقت هذه المرة وتقول وهي تقف على الباب:
"لم أقرأ له قط.. ولم أره قط.. ولا أعرف من هو..."
أهمس لزميلي أن يرحمني ويخرس، لكنه مُصر على أن تتذكرني وإلّا فالويل لها:
"بالتأكيد قرأتِ له مقالًا في جريدة كذا أو جريدة كذا.. هل قرأت له رواية كذا؟"
تهز رأسها نفيًا وهي تنقل قدمًا بدلًا من قدم، فيقول لها في إصرار:
"يظهر كثيرًا جدًا على قناة (السحلية) الفضائية.. ألم تريه في لقاء طويل أول من أمس؟"
تنظر لي طويلًا ثم تقول في ضيق:
"لم أره"
"لحظة.. هل تتابعين قناة (السحلية)؟"
تقول بنفس النغمة:
"أتابعها ولا نشاهد في دارنا أيّة قناة أخرى.. وأجلس أمامها أربعًا وعشرين ساعة، لكن برغم هذا لم أره قط"
هنا أكون قد بلغت النهاية فأتوسّل لصديقي توسلًا أن يسمح لها بالرحيل؛ فتنطلق هاربة كأنها سفاح يفر من السجن.. يهز رأسه في دهشة ويغمغم:
"غريب هذا.. كنت أحسب الكل يعرفك.. لقد بلغ الجهل بالناس مبلغًا"
هنا يدخل صبي البوفيه يحمل القهوة؛ فيستوقفه صاحبي ويقول لي:
"محمدين ولد صعيدي طيّب وجدع.. الكل يحبه هنا.. لكن هل تعرف من الجالس معي يا محمدين؟ هل تعرف كم أنت محظوظ؟"
ينظر لي محمدين في شكٍ وكراهية مع لمسة سخرية.. بالتأكيد لست المدير، ولست رئيس البلاد فهو يعرفه، ولست رئيس الوزراء فصورته في جريدة اليوم.. إذن من أنا؟
نعم.. كما قلت لك أرحّب جدًا بدرجة من الإهمال.. الإهمال الصحي الذي يعطيني حريّتي. ومن فضلك لا تسألني عن رأيي في اقتصاد السوق وأنا ألتهم الدجاج أو اللحم الضأن.. سأكون لك شاكرًا.
• مقال: رجُل شهير.
ضحكات كئيبة
د. أحمد خالد توفيق